الأدب الإسلامي 

 

تاريخ المعجم العربيّ

 

بقلم : الأستاذ ياسر نديم القاسميّ

 

     اللّغة العربيّة التي هي أمّ اللّغات السامية – كما شهد بذلك المستشرقون – تمتد إلى ماض سحيق ، وتصادف من الذيوع ما تصادفه شمس النهار بنورها الساطع ، وهي أغنى اللّغات مادّة ، وأغزرها كلمةً ، وأكثرها تعبيرًا لما يدور في الخلد ، ويطرأ على البال ، كما أنّها ثابتة على أسلوبها ، باقية على منوالها ، منذ زمن متعمّق في القدم بفضل تخليد القرآن الكريم إيّاها ، بمداد من التبجيل والتكريم مع الاهتمام البالغ ، بالحفاظ عليها من تلقاء العرب في العهد الجاهليّ وبعده في العهد الإسلاميّ .

     الساطع : العرب الّذين وجّهوا عنايتهم إليها بالشعر ، والمباريات الأدبيّة ، والأسواق المنعقدة في مختلف بقاع الجزيرة العربيّة قبل بزوغ فجر الإسلام ، وبتدوين اللّغة في الكتب ، وجمع أشعار العرب في الصحائف ، ووضع المعاجم بعد أن طلعت شمسه . حتى أصبحت تمثّل المشاعر اللّطيفة ، وتعبّر عن المعاني الدقيقة بكل سلاسةٍ وأناقة . الأمر الذي يعود إلى غزارة الثروة العربيّة ، التي وصلت إلينا بفضل اهتمام المسلمين بالحفاظ عليها . وازداد ذلك الاهتمام حينما عَبَر الإسلام مع حضارته وثقافته ولغته حدود الجزيرة العربيّة، كما وفد إلى داخلها الأعاجم من جميع أصقاع العالم وأرجاء المعمورة ممّا شكّل خطرًا على اللّغة العربيّة، وتلوّثِ يبنوعها الصافي بالرمال العجميّة . فانقطع العلماء ولاسيما اللّغويين منهم إلى ابتكار طرق مختلفة ، من شأنها أن تُبقي اللّغة كما كانت . ومنها وضع المعاجم التي تشرح كلّ كلمة تضمّ اللّغة في طيّاتها . فنظرًا إلى تلك الجهود المضنية وهذه النتائج المجديدة نستقصي العمل المعجمي في السطور المذكورة أدناه .

كلمة «المعجم» لغةً واصطلاحًا :

     يرجع ابن فارس العين والجيم والميم إلى ثلاثة أصول:

     أحدها يدلّ على سكوت وصمت ، والآخر يدلّ على صلابة ، كما يدلّ الثالث على عضّ ومذاقة(1) إلاّ أن الثاني والثالث يعودان إلى الأوّل . ومن ثمّ ذهب ابن جنيّ إلى أنّ تصريف «ع.ج.م» اين وقع في كلامهم إنّما هو للإبهام ، وضدّ البيان.(2) ولكن القول الصحيح المقرّر بعد اختلاف اللّغويين أن الثلاثيّ من نفس المادّة يفيد معنى الوضوح والإبهام ، والثاني هو الأكثر . وإذا كانت المادّة ترد بالألف قبلها مثل «أعجم» فمعناه الإبهام والوضوح كلاهما ، والوضوح أكثر . والتضعيف منها يفيد البيان والإيضاح.(3)

     وعلى هذا يكون في المادّة بيان وإيضاح للمبهم ، وهو يوافق المراد من فنّ المعجم الّذي يقوم على جمع مفردات اللّغة وشرحها من حيث دلالتها ، وبنيتها وأصولها .

     أمّا تعريف المعجم ، وبألفاظ أخرى معناه اصطلاحًا: أنّ المعجم هو ديوان لموادّ اللّغة ومفرداتها مرتّب على نظام معيّن ، مع شرح المفردات ، وتفسير معانيها ، وتوضيح اشتقاقها ، وطريقة نطقها ، وبيان تاريخها ، واستخدام شواهد تبيّن مواطن استعمالها.(4)

استخدام كلمة المعجم والقاموس :

     الزمان الممتدّ من ظهور الإسلام حتى القرن الرابع الهجريّ شهد جهودًا جبّارة تجاه التراث الأدبيّ ، ومنها وضع كثير من المعاجم العربيّة ، إلاّ أنها كانت لا تحمل كلمة «المعجم» كاسمٍ لها مستخدمة المعنى الاصطلاحي للكلمة ، فمن تلك المعاجم : «الجمهرة» لابن دريد ، وتهذيب اللّغة للأزهري ، و«المحيط في اللّغة» للصاحب بن عبّاد ، و«المجمَل»، و«مقاييس اللّغة» لابن فارس و«الصحاح» للجوهري ، كل واحد منها يشكّل عامودًا فقريًّا في أعمال أدبيّة ، قام بها العلماء النوابغ والأدباء النوابه ، وجذرًا هيكليًّا للجهود نحو الحفاظ على اللّغة العربيّة . وما زالت ولاتزال هذه المعاجم مراجع هامّة ، ومصادر زاخرة ، ولكنّها لم تستخدم كلمة «المعجم» كاسم لها ، وهذا لا يعني جهل أصحاب المَعجمات بالمدلول الاصلاحي للكلمة ، وذلك لأنّنا نجد إطلاق نفس الكلمة على كتب صنّفت كمعاجم في غير قراد أدبيّ أو لغويّ في العهد الّذي اطّلع على المعاجم المذكورة أعلاه.

     فقد شهد ذلك العصر الذهبيّ مواكبة العلماء على وضع كتب تجمع أسماء الصحابة وآثارهم ، ورجال الحديث وتاريخهم ، وأعلام الفقه واجتهادهم ، وأصحاب القراءة وأعمالهم ، ونرى تلك الكتب تحمل في عنواناتهم كلمة «المعجم» – حيث جاء في صحيح الإمام البخاريّ «باب تسمية من سمّى من أهل بدر في الجامع الذي وضعه أبو عبد الله على حروف المعجم،(5) ولأبي عبد الله البخاريّ «التاريخ الكبير» وهو معجم للتراجم في رجال الإسناد والحديث ، رتّبه على حروف المعجم مبتدئًا بالمحمّديين ، ووضع أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنّى كتابًا سمّاه «معجم الصحابة» ، وألّف أبوالقاسم عبد الله بن محمد البغوي كتابين في أسماء الصحابة سمّاهما «المعجم الكبير» و «المعجم الصغير» (6)، ثم أطلق هذا المصطلح في القرن الرابع الهجريّ على كثير من كتب الحديث والقراءات ، وأشهرها ، المعجم الكبير والأصغر والأوسط في أسماء القرّاء وقراءاتهم لأبي بكر محمد ابن الحسن النقاش الموصليّ : والمعجم الكبير والأوسط والصغير لأبي القاسم سليمان ابن أحمد الطبرانيّ،(7) كما ينسب ابن النديم في فهرسته إلى برزج بن محمد العروضي «كتاب معاني العروض على حروف المعجم» . وهذا إلى أن ياقوت بن موسى الضبّي صنف كتابه باسم «كتاب الأغاني على حروف المعجم».(8)

     فهذه التفاصيل تؤكّد شيوع استخدام المدلول الاصطلاحيّ لكلمة «المعجم» في القرون الأولى ، التي خرجت فيها المعاجم اللّغويّة في منوالها البدائي إلى حيّز الظهور ، وإن لم تطلق هذا المصطلح على أسمائها ، ولم تتخذه كعنوان لها ، ممّا يثبت ما ذكرناه آنفًا من عدم جهل أصحاب المعاجم بالمعنى الاصطلاحيّ للكلمة .

     إضافة إلى ذلك ، يطلق على المعجم لفظ «القاموس» أيضًا ، وتعني المادّة المكوّنة من القاف والميم والسين (قمس) غمس شيء في الماء ، كما تعني الماء نفسه ،(9) وأوّل من استخدام لفظ القاموس مجد الدين محمد بن يعقوب بن محمد الفيروز آباديّ لقي تجاوبًا وإقبالاً متزايدين من تلقاء المتأخّرين ، حتى صار يعدّ مصدرًا موثوقًا به في مضمار اللّغة . ولكن الجدير بالذكر أن الفيروز آباديّ أطلق اللفظ على معجمه تقليدًا لمن سبقه من واضعي المعاجم الذين استخدموا أسماءً مضاهية . فأطلق الصاحب بن عبّاد على معجمة اسم «المحيط»، وابنُ سيّده اسم «المحكم والمحيط الأعظم» والصنعاني اسم «مجمع البحرين».(10)

المرحلة الأولى لوضع المعاجم :

     إن من عادات لغة أن تكون دائرة بين ألسنة الناطقين بها في مراحلها البدائيّة قبل أن تحتفظ بها الكتب ، وتسجّلها الصحائف ، وتدوّنها الأقلام ، الأمور التي لم يحطّ بها كثير من اللّغات ، فإنّها نمت وازدهرت ، ثم انمحت حتى لم تبق اسماؤها في كتب التاريخ اللّغوي ، ولكن اللّغة العربيّة قامت مستحصدة المرّة ومانعة الدرّة ، وثبتت رافعة الرأس ورابطة الجأش، فارتفعت ، وازدهرت ، وارتقت ، وبلغت أقصى غايات التطوّر بمنافسة الشعراء فيها ، وتقريضهم القريض بها ، وبمزاولة الخطباء إيّاها ، وانتقارهم الدُّرر الثمينة منها ، حتى برع العرب في لغتهم أكثر من براعة أيّ قوم في لغته ، رغم كلّ قبيلة كانت تباري مع الأخرى في السُّوح اللّغويّ ؛ ولكن الفضيلة التي نالت قريش لم يَنل أي قبيلة أخرى ، فكانت قريش أجود العرب انتقاءً للأفصح من الألفاظ ، وأسهلها على اللسان عند النطق، وأحسنها مسموعًا ، وأبْيَنها إبانة عما في النفس ، وأقدرها تعبيرًا عما في الخلد ، وبفضل ذلك أصبحت أعظم القبائل منتصبًا في الأسواق والمباريات الأدبيّة ، وأوثقها إتكالاً في الغريب الإعراب ، والتصريف من لدن العرب الأخرين .

     وهذا لبذل جهودهم في إثراء مجتمعهم ، وجيلهم بالثروة الأدبيّة ، فكانوا يبعثون بأبنائهم إلى البادية ليغترفوا من عنهامها الفيّاض ، وليستسقوا من منبعها الصافي . فاتباعًا لتقاليدهم ، وعملا بعاداتهم بُعؤ الرسول عليه الصلاة والسلام إلى البادية في طفولته ليتثقّف أود لسانه ، ويسلس عنان بيانه ، فلمّا نشأ هذا الطفل وشبّ ، قال بلسانه الكريم «أنا أفصح العرب بَيْدَ أنّي من قريش ، وأنّي نشأتُ في بني سعد بن بكرٍ.(11)

     ومن ثمّ لم عرف العرب أيّ نوع من المعاجم يحافظون من خلالها على لغتهم ، وذلك لأسباب : منها اتَكالهم على ذاكرتهم وذكاوتهم ، فكانوا يعدّون الكتابة والحفاظ على ماورثوا من الأشعار من خلالها عيبا، ومن أجل ذلك نراهم يفتخرون بذكائهم .  ومن طبيعة حياتهم الاجتماعيّة القائمة على الانتجاع والانتقال ، والحلّ والترحال ، إضافة إلى ذلك الحرب التي تندلع مرّة فتستمرّ طوال الدهور الطويلة . ممّا تسبّب في انتشار الأمّية بينهم . فالّذين كانوا يعرفون القراءة والكتابة قبل الإسلام قليلون . وإلى ذلك من الأسباب الأخرى التي لم تُطلعهم على المعاجم اللّغويّة .

     فلمّا نشر الإسلام رداءه اللاّمع وساد المناخ العربيّ، وبالتالي شهدت الجزيرة العربيّة الاستقرار السياسيّ والاجتماعي ، بدأ فكر وضع المعجم ، أو أيّ طريقة أخرى يطرق أذهان العرب ، لما انغلق كثير من ألفاظ الوحي على فهومهم ، وذلك لاينافي عروبتهم الخالصة ، فإن المرء قلّما يعرف كلّ واحد من كلمات لغته ، فكان النبيّ يشرح لهم الغريب من الوحي بما فيه من كلام الله وكلامه . والصحابة كانوا يدوّنونه في صحائفهم،(12) فهذه صورة بدائية للمرحلة الأولى في سبيل الوضع المعجميّ .

     وقد ورد أنّ الصحابة لم يفهموا بعض الكلمات من الوحي ، فسألوا النبيّ روى سهل بن معاذ عن والده أن النبيّ قال : لاتزال الأمّة على شريعة ، مالم يظهر فيها ثلاث : مالم يقبض منهم العلم ، ويكثر فيهم الخبث ، وتظهر فيهم السقّارة . فلم يفهموا معنى «السقّارة» ، وشرح لهم رسول الله . وفي رواية أخرى ، قال النبي عليه الصلاة والسلام : «إن أحبّكم إليّ وأقربكم مجلسًا منّي يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا ، وأبغضكم إلي وأبعدكم منّي مجلسًا يوم القيامة الثرثارون المتشدّقون المتفيهقون . فاستفسروه عن كلمة «المتفيهقون» (13) وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : «كنت لا أدري ما فاطر السماوات ، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها ، وقال الأخر أنا ابتدأتها» (14)

     وقد ورد أن نافع بن الأزرق حين وجد عبد الله بن عباس رضي الله عنه جالسًا بفناء الكعبة ، قد اكتنفه الناس ، يسألونه عن تفسير القرآن ، قال نافع لنجدة بن عويمر ، قم بنا إلى هذا الذي يجترئ على تفسير القرآن بما لا علم له به ، فذهبا إليه وسأل نافعُ ابنَ عباس : ما معنى «عزين» في قوله تعالى: «عَنِ الْيَمِيْنِ والشِمَالِ عِزِيْن» قال اعزون خلق الرقاق ، قال : وهل تعرف العرب ذلك قال : نعم أما سمعت عبيد بن الأبرص وهو يقول :

فجـــاءوا يهـــــرعــــــــون إليـه

حتى يكون حول منبره عزينًا(15)

     ولذا قال ابن عباس رضي الله عنه : الشعر ديوان العرب ، فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله الله رجعنا إلى الشعر ، فالتمسنا معرفة ذلك فيه(16) وقال عمر رضي الله عنه : «يا أيها الناس عليكم بديوانكم شعر الجاهلية ، فإنّ فيه تفسير كتابكم ، ومعاني كلامكم».(17)

     ومن ثم كانت الاستعانة على التفسير بكلام العرب شعره ونثره . فهو المعجم الذي يصلون من خلاله إلى فهم ما غمض عليهم من كتاب الله عزّ وجل، وبألفاظ أخرى استعانة العرب بشعرهم ، وتدوينهم شرح ما يبدو لهم غريبًا في صحائفهم ، ومحاولاتهم معرفة كلمة بالسؤال عنها ، كل ذلك يعطي أوّل صورة للمعجم الذي نجده في هذه المرحلة منشًّا في الصفحات، ومنشرًا في الأذهان .

     بعد مرور ما يقرب من قرن ونصف ، قدّم إمام اللّغة خليل بن أحمد الفراهيدي المعجم الأوّل الذي يسمّى «بالعين» ، فقد رتّب معجمه طبقًا للنظام الموضوعيّ ، وارتأى بثاقب فكره أن يحصر مفردات اللّغة مع التخلّص من التكرار . فهو رائد معجميّ لغويّ نحويّ بلغ الغاية في القياس في النحو واللّغة ، وتجلّى ذلك قويًّا في «العين» . كما كان إمامًا في الاشتقاق الكبير بتعليلاته وتفسيراته الاشتقاقية.(18) فالفضل كلّ ذلك راجع إليه فيما نتجلّى من اللسان ، ونتزوّج من البيان ، ونتغذّى من الكلام ، ونتجمّل من الثروة الأدبيّة الغنيّة . فظهر كثير من المعاجم الذي حذا حذوا الخليل، وإن كان هناك من اختلف في المنهج ، واتّخذ طريقًا له بغية التيسير والتسهيل .

المدارس الأربع :

     نتيجة لارتياد التيسير في سبيل البحث عن كلمة تحتضن الثروة اللّغوية الزاخرة في طيّاتها ، ظهرت في المضمار المعجميّ أربع مدارس تحت منحى يختلف عن الآخر، وهكذا تعدّدت المعاجم العربيّة ، وتنوّعت الكتب اللغوية الرامية إلى حراسة الوحي من أن يقتحمه خطأ في النطق أو الفهم ، وصيانة اللغة العربيّة من أن يدخل حرمها دخيل لاترضى عنه اللّغة . فنسلّط الضوء على المدارس المعجميّة الأربع في السطور الآتية على سبيل الإيجاز» .

مدرسة الخليل :

     مدرسة الخليل هذه أوّل مدرسة عرفتها العربيّة في تاريخ المعجم العربيّ ، وأوّل منهج أنار للأجيال طريقهم إلى الإلمام بالكلمة . والخليل إمام هذه المدرسة ، وإمام المعجميين عامّة ، فهو أوّل من شقّ أمامهم طريق التأليف المعجميّ ، ودلّهم عليه .

     وقوام مدرسته ترتيب المواد على الحروف حسب مخارجها ، وتقسيم المعجم إلى كتب ، وتفريع الكتب إلى أبواب بحسب الأبنية ، وحشد الكلمات في الأبواب، وقلب الكلمة إلى مختلف الصّيغ التي تأتي منها ، مثل قوله في باب السين والميم مع الواو والألف والياء . سوم، وسم، سمو، مسو، موس .

     وقد سار بعض روّاد التأليف المعجميّ على منهج الخليل ، فالتزمه الأزهريّ في «التهذيب» وابن عبّاد في «المحيط» والقالي في «البارع» . ولم يكن هؤلاء الروّاد مقلّدين ، ولم يتّبعوا الخليل في كلّ دقيقة من دقائق منهجه ؛ بل خالفوه في بعض الأحيان ، وأضافوا إلى طريقة الخليل أشياء جديدة.(19)

مدرسة أبي عبيد :

     وهي التي تنتسب إلى أحد أئمّة اللّغة والأدب أبي عبيد القاسم بن سلاّم . وقواعدها بناء المعجم على المعاني والموضوعات . وذلك بعقد أبواب وفصول للمسمّيات التي تتشابه في المعنى أو تتقارب . وكانت طريقة أبي عبيد من أولى المراحل التي بدأ فيها التأليف اللّغويّ ، ولكن بدأ كتبًا صغيرةً ، كلّ كتاب يؤلّف في موضوع : مثل كتاب الخيل ، وكتاب اللّبن ، وكتاب العسل ... وفضل أبي عبيد أنّه جمع أشتات هذه الموضوعات والمعاني في كتاب كبير ، يضمّ أكثر من ثلاثين كتابًا مثل : خلق الإنسان ، والنساء ، واللباس ، والطعام والشراب . ومجموع ما تضمّ هذه الكتب الثلاثون سبعة عشر ألف حرف أو أكثر .

     واتبع أبا عبيدة في تأليفه من القدماء أبوالحسن الهنائي الأزديّ في كتابه «المنجد فيما اتفق لفظه واختلف معناه». كما اتبعه ابن سيّده في «المخصص» وتوسّع فيه كثيرًا.(20)

مدرسة الجوهريّ :

     ونظام هذه المدرسة تنتسب إلى الإمام المجدّد الجوهريّ الذي ابتكر في التأليف المعجميّ منهجًا قرّب اللّغة إلى الباحثين . فهناك مئات المعاجم والكتب اللّغوية مرتّبة ترتيب الجوهري ، ممّا يدل على عظمة مدرسته .

     هذه المدرسة ترتيب المواد على حروف المعجم باعتبار آخر الكلمة بدلاً من أوّلها ، ثم النظر إلى ترتيب حروف الهجاء عند ترتيب الفصول ، والأوّل سمّاه بابًا، والثاني فصلاً . فكلمة «بسط» يبحث عنها في باب الطاء ، لأنّها آخر حرف فيها ، وتقع في فصل الباء ، لأنها مبدوءة بها .

     ومن أشهر أتباع هذه المدرسة الإمام الصنعاني في معجماته : «التكملة والذيل والصلة» و «مجمع البحرين»، و «العباب». والفيروز آباديّ في «القاموس» وابن منظور في لسان العرب.(21)

مدرسة البرمكيّ :

     هذه المدرسة التي اتخذت ترتيب المعجم على الحروف الهجائيّة ، مبتدئة بالهمزة ، منتهية بالياء مع مراعاة الحرف الثاني والثالث والرابع . ورائد هذه المدرسة إمام اللّغة العربيّة العظم أبوعمرو الشيباني . ولكنّه لم يراع في الترتيب إلاّ الحرف الأوّل ، فهو يذكر في باب الهمزة كلّ حرف مبدوء بها دون أن يراعي ما بعدها من الحروف في ترتيب المواد . الأمر الذي أسفر عن عدم انتساب المدرسة إليه أنّه لم يحكم النظام . أمّا البرمكي فقد نظر إلى الحرف الذي تبتدئ به الكلمة ؟ وراعى الحرف الثاني إذا كان اللفظ ثلاثيًا ، والثالث إذا كان رباعيًّا ، والربع إذا كان خماسيًّا .

     ومن المعاجم التي سارت على منهج الترتيب الألفبائي الأبجديّ معجم «محيط المحيط» للمعلم بطرس البستانيّ ، حيث اعتمد في معجمه على قاموس الفيروز آباديّ . ومن المعاجم المعاصرة التي اختارت المنهج المذكور «المعجم الوسيط» الذي أصدره مجمع اللّغة العربيّة بالقاهرة.(22)

الخاتمة :

     لاشكّ في أن مكتبة اللّغة العربيّة زاخرة اليوم وحافلة بالمعاجم اللّغويّة . وهذه الكميّة الباهظة ، وذلك العدد الهائل للمعجمات من أهمّ مزايا اللّغة العربيّة . وهذا لا يعني أن العرب سبقوا في هذا المجال . فقد ألّفت أمم كثيرة المعجمات حفاظًا على ما ورثته من سلفها . فالأشورويّون الّذين قدموا إلى «بابل» قبل حوالي ثلاث آلاف عام ق. م واجهوا صعوبة في فهم الرموز السومرية، ورأى الطلاب الأشوريون أن من المفيد إعداد لوائح تحتوي على الكلمات السومورية ، وما يقابلها بالأشورية . إضافة إلى أن الصينيّين حذوا حذو البابليّين والأشورييّن ، وأثروا حضارتهم وثقافتهم ، كما أن الهنود لم يتخلّفوا بل ظهر أوّل معجمهم في القرن الخامس الميلاديّ.(23)

     وبالجملة تاريخ المعجم العربيّ يجعلنا نعتزّ بما تحمل مكتباتنا من الثروة الغالية الثمينة ، ونفتخر بما نمتاز من اللّغة العريقة السليمة . رحم الله علماء بذلوا في سبيل الحفاظ على اللّغة العربيّة النفس والنفيس ، وبذروا فيه الغالي والرخيص . فبفضل جهودهم الجبّارة سلمت ثروتنا الأدبيّة من الضياع ، وبقيت وستبقى رافعةً رأسها بين التراث اللّغوي العالميّ .

*  *  *

الهوامش :

(1)          مقاييس اللّغة تحقيق عبد السلام هارون، ج4، ص:239.

(2)          المعجم اللغوي العربيّ : عبد المنعم النجّار، ص: 5 .

(3)          أيضًا ص: 7 .

(4)          أيضًا ص : 9 .

(5)          المعجم العربيّ نشأته وتطوّره ، ص: 14 .

(6)          الفهرست ص : 311 ، 322 ، 325.

(7)          أيضًا ص : 50 .

(8)          أيضًا ص : 72 ، 156 .

(9)          المواهب الفتحيّة في علوم اللّغة العربيّة ج:1، ص: 20 .

(10)      مقدّمة القاموس المحيط ج2 ، ص: 247 .

(11)      الفائق في غريب الحديث للزمخشري، ج1 ، ص: 123. نقلا عن المعجم اللغوي العربي، ص: 53 .

(12)      تفسير الطربيّ، ج:17 ، ص: 24 .

(13)      مقدمة القاموس الوحيد، ص: 22 .

(14)      الاتقان ، ج1 ، ص : 118 .

(15)      أيضًا ج1 ، ص: 120 .

(16)      تفسير القرطبي ، د: 1، ص: 24 .

(17)      أيضًا ، ج:1 ، ص: 110 .

(18)      تاريخ المعجم اللغوي ، د: عبد المنعم نجّار ، ص: 123 .

(19)      الكشف في المعاجم www:\\lexicons.ajeeb.com

(20)      أيضًا .

(21)      أيضًا .

(22)      أيضًا .

(23)      تاريخ المعجم العربي . عبد المنعم النجّار، ص: 58 ، 62.

*  *  *

*  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ربيع الأول – ربيع الثاني 1426هـ = أبريل – يونيو 2005م ، العـدد : 4–3 ، السنـة : 29.